بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
تتوهج في تراثنا حكمةٌ كالنجم الهادي :
" لا تكرهوا الشدائد فإنّها تُبعد عنكم المُنافق ، وتُقرب منكم الصادق ." ليست مجرد كلمات للعزاء ، بل قانونٌ اجتماعي ونفسي عميق يكشف حقيقة العلاقات ويُجلي جوهر البشر. ففي بحر الحياة الهادئ ، قد يبدو الجميع أصدقاءً ومراكب النجاة متوفرة ، لكن العاصفة وحدها هي التي تمتحن متانة السفن وصدق البحارة.
💧فلماذا تُعد الشدائد هذا المصفاة الفذة للنفوس ؟
لأن الرخاء يخفي وراء قناع الراحة والمنفعة. يبتسم المنافق حيث يلمع الذهب ، ويظهر الولاء حيث تتدفق المصالح. العلاقات في زمن السَّعة قد تُبنى على المجاملات السطحية ، والمصادقة العابرة ، والوعود الهوائية التي لا تكلف شيئاً. يأتي الجميع ، يضحكون ، يشاركون الفرح ، لكن قلوبهم قد تكون بعيدة كالنجوم ، وولاءهم هشّ كالزجاج .
هنا تكمن الخطورة : العيش في وهم من الصداقات المزيفة ، محاطاً بمن يلتهمون من خيرك ولا يقفون معك في جوعك.
🩸بينما تأتي الشدائد أيّاً كان شكلها :
مرض ، فقر ، خسارة ، أزمة وجودية فتكسر هذا القناع بقسوة لا ترحم . فجأةً ، تتغير المعادلة . لم تعد هناك منفعة سهلة ، ولا راحة مُشتركة. المطلوب هو العطاء بلا مقابل ، الصبر بلا حدود ، الوقوف بثبات على أرض زلقة .
هنا يتساقط المنافقون كأوراق الخريف :
* يختفي أولئك الذين كانوا أول الواصلين في الفرح ، ويصبحون آخر المفقودين في المحنة.
* تتبخر الوعود ، وتتحول الأعذار إلى سيمفونية مملة.
* يبدأ التبرير : مشاغل ، ظروف ، صعوبات ... كلها أقنعة لوجه واحد : الأنانية والجبن .
* يبتعدون ليس فقط جسدياً ، بل حتى بالقلب والكلمة ، خوفاً من أن تلوثهم مصيبتك ، أو يُطلب منهم شيء يفوق طاقتهم الوهمية في العطاء.
🩸هذا البُعد ، رغم ألمه الفوري ، هو نعمةٌ مُقنَّعة . فهو يطهر دائرة حياتك من السموم ، ويفسح المجال لتنمو فيها الزهور الحقيقية . ففي قلب العاصفة ، وسط الظلام والرياح العاتية ،
يظهر الصادقون كالنجوم في ليلة حالكة :
* هم من يقفون بجوارك دون دعوة ، دون تردد. حضورهم هادئ، ثابت ، كالشجرة الأصيلة.
* لا ينتظرون الشكر ، ولا يبحثون عن مقابل. عطاؤهم نابع من إنسانيتهم ، من حبهم الحقيقي لك ، من إيمانهم بقيمة الوقوف مع الإنسان في محنته.
* هم من يستمعون بقلوبهم ، لا بآذانهم فقط. يحملون جزءاً من همك ، ويسعون بصدق لتخفيفه ، ولو بكلمة طيبة أو دعم معنوي يلامس الروح.
* يقدمون المساعدة العملية ، الصغيرة والكبيرة ، دون ضجيج ، وجودهم بحد ذاته يصبح شعاع أمل.
💧هذا التقارب في زمن الشدة ليس مصادفة ؛ إنه تأكيدٌ عميق لروابط حقيقية ، بنيت على أسس متينة من المحبة الخالصة ، والاحترام المتبادل ، والقيم الإنسانية المشتركة. الشدائد هنا تصبح مختبراً لا يرحم للصدق ، تكشف عن الجواهر الخالصة وتفصلها عن الأحجار المطلية بالذهب. إنها تذكرنا بأن الصداقة الحقيقية ليست ترفيهاً في أوقات الفراغ ، بل هي ملجأ في العاصفة، وسندٌ عند العثرات .
💧لذا ، دعونا لا نلعن الشدائد عندما تحل ، بل ننظر إليها بعين البصيرة . نستقبلها وإن تكن مؤلمة ، كمعلم قاسٍ لكن حكيم . إنها ليست عقاباً بقدر ما هي فرصة ثمينة للتطهير والتجلي :
* تطهير العلاقات : فتزيح عن طريقنا ثقل النفاق ووزن العلاقات الزائفة التي تستنزف طاقتنا العاطفية.
* تجلي الحقائق : فتكشف لنا من هو الجدير بثقتنا، وحبنا، ووقتنا الثمين، فيصبح اختيارنا للرفقة أكثر حكمة وعمقاً.
* تزكية النفس : فتصقلنا ، تزيدنا قوة وصلابة ، وتعلمنا دروساً في الصبر ، والامتنان للقليل ، وقيمة الإخلاص.
نعم ، قد تجرحنا الشدائد ، وقد تذرف أعيننا من مرارتها. لكن في جوف هذه المرارة ، تذوب شوائب الزيف ، ويتبلور معدن الصدق النقي . فاحمدوا الله على النعمة الخفية في كل محنة ، فهي التي تريكم وجوه الناس كما هي ، لا كما تتخيلونها. هي التي تنقيكم من ثقل المنافقين ، وتقرّبكم من دفء الصادقين. وفي النهاية ، تذكّروا :
الذهب لا يلمع إلا بعد أن يُمرّر في النار ، والصداقة لا تثمن إلا بعد أن تُختبر في المحن .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه
0 تعليقات