بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
في زحمة الحياة وصخب إنجازاتها المادية ، تبرز أسئلة عميقة :
ما هي العظمة الحقيقية ؟
ما الذي يستحق أن نُطلق عليه "معجزة" في عالمنا اليوم ؟
💧الإجابة ... تكمن في مكان غير متوقع ، في قلب روتيننا اليومي وتفاصيلنا الصغيرة ، حيث تتجلى المعجزة الأصعب على الإطلاق : أن تحافظ على إنسانيتك كاملةً بين الناس .
💧لطالما انبهر البشر بقدرات خارقة : الطيران في السماء ، السير على الماء ، اختراق المستحيلات الفيزيائية. هذه الإنجازات ، رغم بهرتها التقنية أو الغرائبية ، تظل في نطاق المهارة أو العلم أو الظاهرة . إنها تحدث خارج الإنسان . أما المعجزة التي تتحدى كل قوانين الجاذبية الأخلاقية والاجتماعية ، فهي تلك التي تحدث داخله ، في ساحة معركة الضمير اليومية.
🩸لماذا تعد المحافظة على مبادئ الأخلاق الأساسية في تعاملنا مع الآخرين معجزة تستعصي على الكثيرين ؟
لأنها تتطلب :
١- مقاومة مستمرة لتيار الأنانية :
في عالم يقدس المصلحة الفردية والربح السريع ، يغدو الصدق عملاً بطولياً ، مقاومة إغراء الكذب لتجنب مشكلة أو تحقيق منفعة ، أو الامتناع عن السرقة بمختلف أشكالها (المادية والفكرية والعاطفية) ، أو رفض الغش حتى لو كان باباً سهلاً للنجاح الوهمي – هذه كلها معارك تدور في صميم الذات.
٢- سيطرة دقيقة على قوة التأثير :
كلمة واحدة قد تبني عالماً أو تهدم قلباً. موقف بسيط قد يرفع روحاً أو يسحق أملًا. المعجزة تكمن في استخدام هذه القوة الهائلة – قوة الكلمة والفعل – بحكمة ورحمة ، لا بإيذاء أو غيبة تنهش الأعراض، أو خيانةٍ تنسف جسور الثقة التي بُنيت بشق الأنفس.
٣- ثباتٌ في عواصف الانحدار الأخلاقي :
أن تظل شامخاً كالطود حين يذرو الجميع حولك قيمهم كالريش في مهب رياح المصالح، عندما يُوصف الوفاء بالسذاجة، والأمانة بالعبء، واللين بالضعف. التمسك بالمبدأ حين يكون التخلي عنه هو "العقلانية" السائدة هذا هو الاختبار الأصعب.
💧إنها معجزة لأنها ليست حدثاً لمرة واحدة ، بل هي رحلة يومية من الاختيارات الصغيرة التي تبدو هامشية ، لكنها تشكل صرح إنسانيتنا حجراً حجراً .
🩸فالطيران يتطلب تقنية ، والمشي على الماء يخضع لقوانين الطفو . أما أن تسير بين الناس في السوق والمؤسسة والشارع وفضاءات التواصل الافتراضية ، وأنت تحمل قلباً نزيهاً ، ولساناً صادقاً ، ويداً أمينة ، ونظرةً خاليةً من الحقد أو الاحتقار ، فهذا يتطلب إرادة لا تلين ، وضميراً حياً لا يغفو ، وتواضعاً يدرك قيمة النفس وقدر الآخرين معاً .
💧تحديات العصر تضاعف من صعوبة هذه المعجزة :
ضغوط المادة ، والتنافسية الشرسة التي تدفع للتجرد من الرحمة ، وتشظي القيم في عالم سريع ومتشابك ، وغياب القدوة ، وانتشار ثقافة " الغاية تبرر الوسيلة " .
في هذا المشهد ، يصبح السؤال وجودياً :
كم منا يجرؤ على أن يكون الصادق الوحيد في غرفة مليئة بالأقنعة ؟
كم منا يرفض ربحاً مغرياً قائماً على غشٍ أو استغلال ؟
كم منا يكبح لسانه عن كلمة جارحة أو غيبة مدمرة رغم توفر الدوافع ؟
كم منا يحافظ على الأمانة في أدق التفاصيل ؟ وكم منا يبذل جهداً حقيقياً لئلا يكون سبباً – بقصد أو بغير قصد – في كسر قلب أو سحق أمل ؟
هذا الثبات الأخلاقي ليس مثاليةً طوباوية ، بل هو جوهر القوة الحقيقية . هو ما يبني المجتمعات المتينة القائمة على الثقة ، وهو ما يخلق علاقات إنسانية عميقة ومستدامة ، وهو ما يمنح الفرد سلاماً داخلياً لا تقدر بثمن .
إنه الاختبار الحقيقي الذي يميز بين من "يعيش" فقط ، ومن "يستحق" الحياة بكل معاني السمو والكرامة .
🩸وختاماً ... وعد الإنسانية
نعم ، هذه هي المعجزة التي تعلو فوق كل بهرجة الإنجازات المادية الزائلة :
أن تحافظ على نقاء روحك وسط زحام الرماد ، أن تكون ملاذاً للأمان لا مصدراً للخوف ، وبانيةً للجسور لا حافرةً للهوة ، وحاميةً للثقة لا خائنةً للأمانة . إنها معجزة لأنها تتحدى الغرائز الأولى وتصنع من الإنسان كائناً أخلاقياً ، يرتقي فوق ذاته الضيقة.
إنها رحلة لا تنتهي ، شاقةٌ بلا شك ، مرهقةٌ أحياناً ، لكنها وحدها التي تمنح الوجود وزنه الحقيقي وبهاءه الدائم . هي مهمتنا الكبرى ، واختبارنا اليومي ، ونبراسنا في الظلام. فلنتمسك بها ، ولو تعثرت الخطى ، ولو كثرت المغريات ، لأن الثمن هو جوهرنا :
١- أن تحيا بوجهٍ نظيفٍ تجاه المرآة وتجاه الناس .
٢- أن تترك وراءك أثراً طيباً لا جرحاً نازفاً ...
٣- أن تكون حارساً أميناً لشعلة الإنسانية وهي تكافح الريح...
بكل بساطةٍ وعمقٍ وتحدٍ ... أن تكون إنساناً .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه
0 تعليقات