مجلة الثقافة الكويتية
دراسة بقلم : عبد الله البصيص رئيس رابطة الكتاب الكويتيين
«كفر طعطع» لهاني الشافعي: قريةٌ تتكلّم… وسيرةٌ سردية للريف المصري
مجموعة «كفر طعطع» للكاتب الدكتور هاني الشافعي عن دار ملاذ للنشر والتوزيع، في نحو 240 صفحة، وتُقدَّم بوصفها عملًا يقع في منطقة التماس بين الرواية والمجموعة القصصية، حيث يجمعها فضاء واحد هو القرية/الكفر وشخصيات تتقاطع وتتشابك حيواتها في نسيجٍ سردي واحد.
هذه الدراسة تحاول مقاربة العمل مقاربة نقدية متعمّقة، عبر ثلاثة محاور رئيسة:
1. الفضاء الريفي بوصفه بطلاً سرديًا
2. تقنيات بناء العالم والشخصية
3. البُعد الرمزي والفكري في الكتابة عن الهامش
أولًا: الريف بوصفه بطلًا… من جغرافيا المكان إلى ميتافيزيقا القرية
لا يتعامل الشافعي مع الريف باعتباره خلفية محايدة للأحداث؛ بل يتحوّل المكان إلى بطلٍ حقيقي، يملك ذاكرة، ونبرة، ومزاجًا خاصًا. منذ السطور التقديمية التي ترسم حركة الترعة بين القرى والعزب والكفور، يتبدّى أن الماء ليس مجرّد تفصيلٍ مكاني، بل هو شريان السرد الذي يحمل حكايات الناس من ضفةٍ إلى أخرى، كما لو أن القرية تُروى من داخلها لا من عينٍ خارجية باردة.
القرية كـ«ميكروكوزم» لمصر
«كفر طعطع» ليست قرية بعينها، بقدر ما هي صيغة مكثّفة لمئات القرى المصرية؛ ما يجعلها قابلة للتعميم والتأويل. إنها نموذجٌ مصغّر لمصر من أسفل:
• علاقات القرابة والتداخل العائلي
• تراتبية السلطة غير المكتوبة: العمدة، الشيخ، صاحب المخبز، الموظف العائد من الخليج
• شبكة الإشاعات والثرثرة التي تقوم مقام الإعلام الرسمي
بهذا المعنى، لا يكتب الشافعي ريبورتاجًا اجتماعيًا عن قرية بعينها، بل يكتب سيرة باطنية للريف المصري؛ ريفٍ يجاور المدينة إعلاميًّا وخطابيًّا، لكنه يبقى بعيدًا عنها في شروط الحياة الفعلية.
2. من «الطوب اللبن» إلى «الطوب الأخضر»: لغة التفاصيل الصغيرة
يُصرّ العمل على وصف الملمس اليومي للمكان:
• بيت من الطوب الأخضر انتفخ أسفله بالرطوبة
• باب خشبي ثقيل «ينين» عند الفتح
• صحن دار نصفه مكشوف والنصف الآخر مُعرَّش بالجريد والخرق المتدلية
هذه التفاصيل ليست زخرفًا بل هي معادلٌ بصريّ للفقر النبيل؛ فالمكان هشّ ماديًا لكنه ثابت رمزيًا، يقدّم إحساسًا بالاستمرار والامتداد، حتى ولو كانت جدرانه مهدّدة بما تسميه اللغة الشعبية «الخراب».
ثانيًا: البناء السردي… بين «قرية الحكايات» و«رواية الأصوات المتعددة»
1. مجموعة قصص أم رواية أصوات؟
من الناحية الشكلية، يُقدَّم الكتاب كمجموعة قصصية. لكنه أقرب إلى ما يُسمى في النقد الغربي “رواية القصص المتجاورة” أو short story cycle:
• كل نصٍّ يمكن أن يُقرأ بوصفه قصة مستقلة بذاتها.
• في الوقت نفسه، تتكرّر بعض الشخصيات والعائلات والفضاءات، فتتشابك الخيوط تدريجيًا، ليظهر أمامنا نسيجٌ روائي واسع.
هذا الخيار البنائي يُحقّق ميزتين معًا:
1. حيوية القصة القصيرة: الكثافة، التركيز، المفاجأة.
2. نَفَس الرواية الطويل: التراكم، وتحول الشخصيات مع الزمن، وإمكانية قراءة الكتاب دفعة واحدة كأنّه «رواية القرية».
2. تعدّد الرواة وطبقات الرؤية
من أبرز نقاط القوة في «كفر طعطع» تنوّع زوايا النظر:
• أحيانًا نتلقّى الحكاية من راوٍ عليمٍ تقليدي، يعرف كل شيء عن الشخصيات وماضيها.
• أحيانًا أخرى يقترب السرد من الرؤية الداخلية، فنسمع مونولوغ الشخصية نفسها، أو نتابع وعْيَها وهي تبرّر أفعالها.
• وفي مواضع متفرقة، يحضر صوت القرية الجمعي، في شكل حكاية تُروى على المقهى، أو إشاعة تتضخّم، أو حكمٍ شعبي يختزل مصيرًا معقدًا في جملة واحدة.
هذا التعدد في الأصوات يمنح العمل حيوية درامية، ويجنّبه أحادية الصوت التي تقع فيها كثير من الكتابات الريفية التقليدية.
3. الشخصية الريفية بين النمطية والتفرد
لا يسقط الشافعي في فخّ تحويل الشخصية الريفية إلى نموذج كاريكاتوري (الفلاح الساذج/الماكر/الشرقي الفحل.. إلخ)، بل يقدّم شخصيات تتأرجح بين الخير والشر، بين القسوة والحنان:
• الأم التي تحفظ الأحاديث الدينية لكنها تتورط في إعادة إنتاج الظلم على بناتها.
• الشيخ الذي يحدّث الناس عن التوبة بينما يُبقي على صمته أمام جريمة اجتماعية.
• الشاب الذي يحلم بالمدينة والخروج من القرية لكنه، في لحظة امتحان، يعيد إنتاج نفس القيم التي أراد الهروب منها.
النقطة اللافتة هنا أن الكاتب لا يحاكم شخصياته أخلاقيًا من علٍ، بل يترك أفعالها تتراكم وتتكشّف، ليتولّد الحكم من داخل النص، ومن صراع الشخصيات نفسها مع ضمائرها.
ثالثًا: الثرثرة والصمت… آليتان لإدارة العنف الاجتماعي
1. الثرثرة كجهاز ضبطٍ أخلاقي
في قرية مثل «كفر طعطع»، الثرثرة ليست تسلية، بل مؤسسة اجتماعية:
• تفضح من تراه خارجًا عن العرف.
• وتُخفي، في الوقت نفسه، ما يتفق الجميع على دفنه حفاظًا على «السمعة» أو «الستر».
بهذا المعنى، تصبح الشائعة نوعًا من القانون الموازي الذي يوازي قانون الدولة، وربما يتقدّم عليه في القدرة على العقاب: النبذ، العزلة، التعليق الساخر، تشويه السمعة. هذه المنظومة تحاصر الجسد، خصوصًا جسد المرأة، وتجعل من أبسط اختيارٍ شخصي مادةً للتجريم.
2. الصمت كجريمة ثانية
على الضفة الأخرى، يقف الصمت بوصفه الوجه المكمّل للثرثرة:
• صمتٌ عن جريمة تُرتكب داخل البيت.
• صمتٌ عن فسادٍ صغير يُبرَّر بأنه «ما دام كله كده».
• صمتٌ عن عنفٍ يُمارَس باسم «الرجولة» أو «التربية».
في كثير من المواقف، يبدو أن ما يدينُه الشافعي ليس الجريمة الأولى، بل الجريمة الثانية: التواطؤ الجماعي؛ حيث تتحوّل الضحية إلى عبء على العائلة، ويصبح الحلّ الأسهل هو إنكار ما حدث أو تغطيته بدل مواجهته.
هذا التناول يمنح النصوص طابعًا نقديًا حادًّا، لكن من داخل العالم لا من خارجه؛ فالسرد لا يلقي خطبة، بل يسرد واقعةً حتى منتهاها، ثم يترك القارئ في مواجهة سؤال أخلاقي لا فكاك منه.
رابعًا: اللغة بين الفصحى والعامية… بلاغة اليومي
1. فصحى شفافة لا تتعالَى على الشخصيات
لغة السرد في «كفر طعطع» فصحى، لكنها فصحى قريبة من نبض الكلام اليومي؛ جُمل قصيرة غالبًا، وصور حسّية تُركّز على الرائحة والملمس والصوت. لا نجد «فصحى منجّمة» أو فائضة الزخرف، بل اقتصادًا محسوبًا في المجاز، يسمح للصورة أن تعمل دون أن تتحول إلى استعراض بلاغي.
2. العامية كحاملٍ للصوت الحيّ
حين تنتقل الحكاية إلى حوار، تحضر العامية المصرية –خصوصًا الريفية– بما تحمله من:
• أمثال شعبية مكثّفة
• نداءات وشتائم وتعليقات يومية
• ألقاب وشهرة تُشير إلى مكانة صاحبها في القرية
إدماج العامية هنا ليس إضافة شكلية بل هو شرط أصالةٍ فنيّة؛ إذ يصعب تخيّل هذه الشخصيات وهي تتحدث بلسان فصيح منقّح لا يشبه بيئتها، كما أن العامية تُسهم في تثبيت الفضاء المكاني والطبقي للشخصيات.
خامسًا: البنية الرمزية… من الترعة إلى الكفر كعنوان
1. الترعة: بين الحياة والفساد
تظهر الترعة في التعريف بالكتاب بصفتها شريانًا يمرّ بين القرى، حاملاً حكاياتها، ومتشكّلًا وفق انحناءات الطريق. لكنها في المخيال الريفي، كما توحي به الإشارات النصية، كيانٌ مزدوج:
• مصدر حياة: ماء، ووضوء، ومرآة للسماء.
• ومصدر خطر: غرقٌ محتمل، تلوّث، وخزانٌ صامت لما يُلقى فيه ويُراد نسيانه.
هذا الازدواج يمنح الترعة وظيفة رمزية: هي ذاكرة القرية الملتبسة؛ تحفظ كل شيء، لكنها لا تتكلم، تاركةً الحكايات تتسرب عبر ألسنة الناس.
2. «كفر طعطع» كعنوان دال
الاسم نفسه –«كفر طعطع»– يفتح المجال أمام أكثر من قراءة:
• كلمة «كفر» في السياق المصري تحيل إلى القرية الصغيرة، لكنها تحيل صوتيًا أيضًا إلى الكُفر بمعنى الضلال، كأن ثمة إيحاءًا بأن المكان يعيش حالة من الانفصال عن المركز، لا جغرافيًا فحسب بل معرفيًا وأخلاقيًا أيضًا.
• كلمة «طعطع» بما فيها من تكرار صوتي قاس/قاطع تحمل موسيقى خاصة، أقرب إلى اسمٍ ساخر أو لقب شعبي، مما يوحي بأن المكان موسومٌ سلفًا بسمعة ما، ليست بالضرورة حسنة، وأنه محلّ نكات وحكايات تتجاوز حدوده الجغرافية.
العنوان هنا لا يقدّم بطاقة تعريفية محايدة، بل يفرض على القارئ أن يدخل العمل وفي ذهنه سؤال: ما الذي يجعل هذا «الكفر» مختلفًا أو جديرًا بأن يُروى؟
سادسًا: موقع «كفر طعطع» في سياق الكتابة عن الريف
1. بين نجيب محفوظ ويحيى الطاهر عبد الله وصنع الله إبراهيم
لا يمكن قراءة «كفر طعطع» بمعزل عن تراث الكتابة عن القرية في الأدب المصري؛ من «السمان والخريف» و«الحرام» و«الأرض»، إلى نصوص يحيى الطاهر عبد الله عن الصعيد، مرورًا بكتابات صنع الله إبراهيم عن الهامش.
إسهام الشافعي هنا أنه:
• يبتعد عن خطاب «النوستالجيا» الذي يمجّد الريف بوصفه فردوسًا مفقودًا.
• وفي الوقت نفسه لا يقع في فخّ شيطنته بالكامل.
بل يُقدّم الريف كفضاءٍ إنساني مركّب، يجمع بين البراءة والقسوة، بين التضامن والتواطؤ، بين الحكمة الشعبية والجهل المركّب.
2. صوت جديد برائحة الأرض
تُبرز بعض القراءات الصحفية والمرجعية للكتاب أنّه يُقدّم «صوتًا جديدًا يحمل عبق الأرض ورائحة القمح»؛ أي أن فرادته تأتي من درجة التصاقه بالعالم الذي يكتب عنه، ومن قدرته على تحويل الواقع إلى مادة سردية نابضة لا إلى مجرّد تقرير اجتماعي.
في هذا الإطار، يمكن النظر إلى «كفر طعطع» بوصفه نقطة انطلاق لمشروع سردي أوسع، إذا استمر الشافعي في تعميق تجربته، خاصة في:
• تنويع البناء الفني من قصة إلى أخرى بدرجة أكبر.
• المغامرة أكثر في كسر خطية الزمن وتفكيك الحكاية.
• توسيع زاوية النظر لتشمل علاقات القرية بالمدينة وبالعالم الأوسع
خاتمة: قرية صغيرة… وأسئلة كبيرة
في المحصلة، يقدّم هاني الشافعي في «كفر طعطع» عملًا يضيف إلى أدب الريف المصري من زاويتين أساسيتين:
1. زاوية فنية:
• بنية تجمع بين استقلال القصص وترابطها،
• تعدّد في الأصوات،
• ولغة تحاول أن تكون شفافة بقدر ما هي مشبعة بالحسّ المكاني.
2. زاوية فكرية/اجتماعية:
• تفكيك آليات العنف الرمزي والمادي في مجتمع مغلق،
• كشف علاقة الثرثرة بالصمت،
• وإضاءة التوتر الدائم بين «الستر» و«العدالة»، بين ما يُقال في العلن وما يُحتفَظ به في سراديب البيوت.
«كفر طعطع» ليست حنينًا إلى قرية طيبة وبسيطة فقط، بل هي أيضًا مرآة مُقلِقة تُرينا كيف يمكن لعالم صغير، محكوم بعلاقات القرابة والعرف والدين الشعبي، أن ينتج قدرًا هائلًا من الجمال… وقدرًا لا يقلّ من القسوة.
بهذا التوازن الدقيق بين الحب والنقد، بين الانتماء والتمرد، يرسّخ الشافعي لنفسه مكانًا واعدًا في خريطة السرد المصري المعاصر، ويترك للقارئ –وللنقد أيضًا– مهمة متابعة تطوّر هذا الصوت الذي خرج من قلب الريف، لكنه يحمل في طياته أسئلة بلدٍ بأكمله



0 تعليقات